من حياة الدكتور محمد يوسف
*أقدر غضبه من تلك المريضة التي دفعت مبلغا كبيرا لمقابلته مقابلة
اعتيادية، ما زلت أذكر حاجبيه المقطبين و نبرة صوته و هو مستهجن فعلتها :"
ليش تمري على الريسبشن، مش حكتلك تعالي عندي دغري و ما تدفعي ؟! اوعك
تعيديها مرة تانية !" ..
*"السلام عليكم، مرحبا، كيف الحال".. كانت
عبارته الاعتيادية بتلك النبرة الترحيبية المليئة بالشغف، أكثر ما كان
يميزه .. القبلة التي كان يطبعها على رأس المرضى الكبار في السن، التربيت
على كتف الخائف و طمأنة المفزوع : "بس هيك ابرة صغيييرة ، نسحب منك شووووية
دم، و هادا الدوا كمان منيح لقلبك، حبة صغييرة كل يوم و بتصير تمام" ..
اوعكم بيوم تقولوا للمريض عملية قلب مفتوح، هي لا قلب مفتوح ولا هم يحزنون، كل القصة بدنا نشيل شريان صغير من رجلك و نحطو بقلبك و خلصت العملية !
اوعكم بيوم تقولوا للمريض عملية قلب مفتوح، هي لا قلب مفتوح ولا هم يحزنون، كل القصة بدنا نشيل شريان صغير من رجلك و نحطو بقلبك و خلصت العملية !
*"انتوا رائعين" ، كان يكفيني أن أسمع منه تلك العبارة
لأكمل باقي اليوم بفرحة غامرة.. لست انتظر مديحا من أحد بالتأكيد و لكنه
ليس كأي أحد !
*يجب أن تفخروا بأنكم فلسطينيون، و الأهم أن تنقلوا
هذا الشعور بصمت و ذكاء.. و دعوا أعمالكم تتحدث و ارتقوا بأنفسكم عن سفاسف
الأمور .. سحقا لأمة تنتحر و ليذهب الرويبضة الذين ظنوا أنهم من الممكن أن
يغرقوكم بأوهامهم و أكاذيبهم إلى الجحيم !
*قسم الباطنة صباحا كان
دائما يعج بالفوضى و الأطباء المحتارين في أمرهم و المناوشات الصغيرة هنا و
هناك و نحن -الطلاب- و الممرضين و أطباء الامتياز و أطباء القسم.. كل ذلك
كان ينتهي في غضون ثوان، فقط عندما يأتي و يقف في منتصف القسم وقفته
المميزة ، التي أقل ما يقال فيها أنها انتصابة أسد في عرينه.. كل من في
القسم يلتفون حوله بتأهب و صمت و تركيز ، تتوقف المناوشات و تحل النزاعات
بنظرة منه أو بأمر صغير يعبر عنه بحركة بيديه أو ببضع كلمات مختصرة ..
*هل كان الكل يخضع له عن خوف؟ لا ، بل بدافع الحب .. على الرغم من أنه
الأعلى رتبة في المشفى إلا أنه نجح بطريقة ما أن يوحد القلوب على حبه و
يجمع في شخصيته كل المتضادات و كل المستلزمات التي تجعله إنسانا شديد
التميز قوي التأثير في محيطه .. على الرغم من كبريائه هو شديد التواضع مع
الكبير و الصغير، لطالما سألت نفسي كيف يقدر أن يكون قويا و حنونا في ذات
الوقت؟! كيف لم يتشرب طباع الاطباء التي تفرض عليهم أن يفقدوا الإحساس؟!
كيف يكون ذكيا و يحاول إصلاح السذاجة من حوله بلا كلل او ملل؟.. كيف يكون
نبيها و حليما و متسامحا مع كل الدنيا التي أعتقد أنها قست عليه أحيانا
كثيرة ، من أين يأتي بكل تلك القصص ليخبرنا بها؟ كيف يحفظ كل ذلك التاريخ؟
ألا يمل منا ؟ ما زلت أذكر نظرته المعاتبة لي لأنني أبديت تذمرا من طول
الوقوف، و قلت له دكتور بصراحة تعبت، يعني انت ما تعبت؟! قال لي انا ممكن
اشتغل كمان 12 ساعة و ما بتعب !! نعم مثله لا يتعب، مثله وقوده الحب و سمته
الإخلاص .. متى تبحر في كل أنواع العلوم و كيف نجح بأن يجعل الطب جزءا
صغيرا فقط من حياته؟! كيف دللنا بلا أن يجعل منا أناسا كسولين متواكلين بل
أكثر التزاما ممن فرض عليهم الالتزام؟! أعتقد بأنه يمنح الإنسان ثقة يخجل
معها أحد أن يشرخها .. أو ربما لديه قدرة خفية على أن يحقق مراده شاء من
شاء و أبى من أبى .. لا أعلم..
لقد قال لنا في بداية لقائه بنا أريد أن أعلمكم ما لم يكتب في الكتب .. و أنا أشهد بذلك ! علمتنا ما لم يكتب لا في كتب الطب و لا في كتب الفلسفة ولا علم النفس و لا التاريخ و لا الشريعة ..!
لقد قال لنا في بداية لقائه بنا أريد أن أعلمكم ما لم يكتب في الكتب .. و أنا أشهد بذلك ! علمتنا ما لم يكتب لا في كتب الطب و لا في كتب الفلسفة ولا علم النفس و لا التاريخ و لا الشريعة ..!
*نجح في أن يجعلني أحب رائحة القهوة التي يعبق بها مكتبه دائما
بعد أن كنت كرهت القهوة و رائحتها لارتباطها بأيام الامتحانات البشعة فقط
..! رائحة السجائر في أي مكان كانت توترني و تزعجني، و لكن مزيج رائحة
القهوة و العطر و السجائر يليق به كثيرا ..
* أخبؤ له اعتذارا صغيرا و متأكدة من أنه رآه في عيناي في آخر لقاء بيننا عندما ودعني بنصيحة سأتنفسها ما حييت ..
*اعترف اعترف بأنه تسلل إلي و اختبأ في وجداني .. المشكلة ليست في كونه
إنسانا استثنائيا نقش صورته في أعماق أعماقي .. المشكلة تكمن في أنه رفع
بسقف آمالي حد السماء ، فلا حضور لأي حضور في غيابه، ولا آمل أن يعجبني
بعده بشق الأنفس إلا نوادر النوادر ..
*الصمت في حرم الجمال جمال،
لم أصمت لأتقن طقوس التأمل في الجمال و لكن من الواضح أنني متلعثمة مبعثرة و
غير قادرة على ربط الأفكار ببعضها، و لك أن تتخيل ما أنا فيه ..!
كتابة الصديقة / د. هديل حداد
0 التعليقات:
إرسال تعليق